كَوني مدرّسة منذ مدّةٍ غير قصيرة، فمن البديهي أن تكون خبرتي وتجربتي في هذا العمل التّربوي قد بلغت حدّاً لا بأس به من المعرفة، ومن استخدام طرقٍ عديدة في التّعامل مع الأطفال والتّلاميذ بمختلف أعمارهم وذلك مواكبةً مع تطوّر أساليب التّربية، مع تطوّر العصر، مع اختلاف طريقة التّفكير من سنة إلى سنة، والسّماح للأولاد بالتّعبير بحريّة والاهتمام بالفرد شخصيّاً وليس ضمن المجموعة.
وبهذا السّياق، استوقفتني حادثة حصلت معي منذ فترة أحببتُ مشاركتكم إيّاها…
ففي أحد الأيّام الطّويلة في المدرسة، وبعد انتهاء الحصّة الأخيرة في ذلك النّهار، كنت أهمُّ بمغادرة الصّفّ بعد أن لملم الأولاد أغراضهم وتهيّأوا للخروج… وإذا بولدٍ منهم، يتقدّم منّي، يمسك بيدي ويسألني بصوتٍ هادئ،
سيّدة رين، هل تحبّينني؟
ابتسمتُ وأجبته بسرعة: “بالطّبع يا فادي أحبّك. أنت ولدٌ مهذّب ومجتهد”.
ولكنّه اقترب مني أكثر وضغط على يدي بقوّة ثمّ نظر إليّ بعينيه الواسعتين البرّاقتين وقال بصوتٍ عالٍ:
هل تحبّينني؟
عندها، وقفتُ مذهولةً أمام هذا الوجه البريء وشعرتُ أنه جرّدني من صفتي كمدرّسة، شعرتُ أنّه أطاح بسنين خبرتي مع الأطفال، شعرتُ بصوته المتهدّج يخترقُ كياني وقلبي، وكأنّني أمام سؤال امتحان لا أعرف الإجابة عليه وكأنّه معضلة بالنّسبة لي، وكأنّ المكان قد خلا إلاّ منّي ومنه.
تركتُ حقيبتي وتوجّهتُ إلى مكتبي وفادي ما زال ممسكاً بيدي، جلستُ، نظرتُ إليه، كان ما زال يحدّقُ بعينيّ، منتظراً إجابتي، مخفياً دموعاً خلف تنهّدات متقطّعة، تلعثمتُ، أخذتُ نفساً عميقاً وسألته: “لمَ تسألني إن كنت أحبّك؟”
فانهمرت الدّموع السّجينة على خدّيه وقال: “أكّدت لي جدّتي أنّها تحبّني وصدّقتها، وفرحتُ كثيراً لأنّي أنا أيضاً أحبّها، لكنّها ماتت وتركتني، أوهمتني أمّي بأنّها تحبّني وأنّي مصدر سعادتها، لكنّها تشاجرت مع أبي وتركت البيت، تركتني وتخلّت عنّي. قال لي والدي إنّه هو من يحبّني، ولكنّي لا أراه إلاّ نادراً، هو دائماً مشغول وغاضب، لقد تركني!
كان فادي يخبرني بذلك والحزن يلفّ وجهه البريء ويده الممسكة بيدي ما زالت تضغط بقوّة على كل كلمة: “تركني”. فأسرعتُ وقلت له: “لا تحزن يا صغيري، أنا أحبّك”.
هدأ قليلاً، ترك يدي، مسح دموعه، نظر إليّ وقال لي: “أعرف ذلك ولكنّي كنت أريد ألاّ أصدّق، أخاف أن تتركيني أيضاً. إلى اللّقاء سيّدة رين”.
في طريق العودة إلى البيت، رحتُ أفكّر وأفكّر، إنّ حالة هذا الولد ليست بغريبة في أيّامنا هذه، ولكن ما فاجأني تعبيره بهذه الطّريقة الّتي تدلُّ على حزن وأسى دفينين، عن فهم لواقع لا يستطيع تغييره، عن حاجته للحبّ وعن رفضه له “خوفاً من معاناة جديدة وكأنّه اختصر تجارب الحياة كلّها بعمرٍ صغير جدّاً، يا الله، كم يعاني هذا الطّفل وغيره من نقص العاطفة، والحاجة لوجود مُربٍّ قربه، لا أريد أن أفكّر بما سيفعله بمستقبله لاحقاً، كيف سيؤثّر حاضره على غدِهِ…
ولكن، هل يمكن أن يكون تصرّف بعض المسؤولين في بلادنا اليوم، من كبرياء، تسلّط وتنمّر وجهل للإنسانيّة، نتيجة نقص في العاطفة والحنان في الطّفولة والمراهقة؟
فأمسى الآخر، والبلد والمسؤوليّة محطةً للتّعبير عن معاناةٍ داخليّة ونفسيّة؟
لا أعرف إذا كنت أريد أن أجد أعذاراً لفساد نعيش فيه، أو كنت ألمّح إلى أمراضٍ متفشّية في كل مكان، والعلاج مع أغلبيّتها مستحيل…
رين بستاني